في هذا اليوم جابهنا موقفاً محرجاً، مصيرنا أمسى تحت العراء، ولم يعد بوسع أحد منا أن يدخل إلى المنزل، فأثاثنا العتيق لم يعد صالحاً للاستعمال. تمكن أبي بصعوبة وبعد مدة طويلة من توفير المال للحصول على ذلك الأثاث لكنه الآن أمسى من الأشياء التالفة.
ظني كان في محله حين اعتقدت أن الأيام تسير بنا نحو وضع سيئ. ففي الشهر الماضي توفيت أمي، حين بدأ الحزن يفارقنا، اتصلت الشرطة، تخبر أبي أن جابراً ضبط متلبساً، كان يريد سرقة خزينة أحد المساكن في حي العزيزية.
بعدها بيومين أخذت تنتكس حالة عدنان، كلما حاول أبي علاجه، يعود مجدداً لتجرّع المخدر، فتعلق مصير أسرتنا الصغيرة بأخي ماجد، ماجد الذي يصغرني بسنة قد أتم السادسة عشرة هذا الشهر.
ما كنا نستطيع عمله، أبي وأخي وأنا، هو البحث عن مصدر رزق، ونتلمس طريقة نجمع فيها المال، فأُجرة المنزل كانت قد حانت والمؤونة قاربت على النفاد.
وقتها ظني بدأ يتغير، شعرت أن الأمل يقترب، رأيت الدكان الذي أمام منزلنا يضع إعلاناً يطلب فيه عاملاً، أخذت أشير، وأتوسَّل بيدي لأبي بأن يذهب فوراً لعلَّ ماجد يجد فرصته.
في الأصيل عاد أبي دون ماجد، ويبدو عليه الانشراح، فهمت من إشاراته أنّ ماجداً حصل على العمل، وأنّ العم صالح كان يريد عاملاً أميناً، يصون المحل، وفي نهاية الشهر يتناصفان الربح.
صعدتُ إلى السطح، ابتسمت وأنا ألاحظ من بعيد ماجد يمسك بالقلم والورقة، وبجانبه العمّ صالح، ثم رأيته يخرج، ويبقي ماجد بمفرده في الدكان، لمحني ماجد ثم أخذ يشير إليّ، ومظهر السعادة على وجنتيه، فنزلت مسرعةً أضع راحة يدي على خدي أهنئ أبي.
مضت الأيام على نحو لا بأس به، وماجد يعمل بدكان العم صالح. غير أننا أصبحنا في هذا اليوم والجو قاتم وملبدٌ بالغيوم، السماء تمطر دون توقف، والوابل يزداد قوة. هرولتُ إلى الأعلى فرأيت الماء غزيراً في الطريق، يرتفع ويتجاوز الرصيف، ينفذ بسرعة ويدخل الدكان، ويخرج منه بدفقات كبيرة، أرى ماجد يقف على ظهر إحدى السيارات الجانبية، يحزم قميصه حول خصره، يحاول إنقاذ أحد الغارقين، بينما الناس ترمي حاجياتها، لتفرَّ وتأوي إلى مكان آمن خوفاً من أي جرف.
الماء يرتفع أعلى بكثير، أشاهد السيارات تسبح على ظهر الماء، وبراميل النفايات تسير كالمقطورات، أرمق بضاعة الدكان يسحبها السيل، وكل ما في الدكان يحمله التيار، ثلاجة العصائر راحت تطفو على الماء، تتقلب، ثم تبتعد وتغيب، ولم أعد أراها ولا أرى أي أثر لها، وأمام منزلنا لم يعد هناك شيء صالح.
عدنان وجابر، كانا يرغبان أن يوفّرا لنا المال، لكنهما منذ صغرهما عنيدان، متمردان على الأوضاع المعيشية والحي العشوائي الذي نعيش فيه. كبرا وتعلما سوء الخلق، فقرر أبي عدم التعويل عليهما.
أبي لا يدرك لمَ هما غير صالحين، لا يعرف أحداً في أسرته بهذا السوء، كانوا مطيعين، مسالمين، ولم يسيئوا احترام أحد، لا يعرف لم هذان الابنان بهذه الصورة الخبيثة؟!
تدمع عيناه عليهما فَقَدْ فَقَدَ الأمل بهما، فليس ثمَّة رجاء فيهما، والأمل معقود في أخي الأصغر ماجد.
أبي يتألّم كثيراً لأجل ماجد، لا يريد أن ينتهي به الأمر بمثل ما انتهى بشقيقيه، يظن أنه لن يجد له عملاً بسهولة.
سعد أحمد ضيف الله