لقد رن هاتفي اليوم عدة مرات، كان هذا منذ ساعة. رن مرتين، أو ثلاثا، أو أربعا، أو خمسا، أو ست مرات، رن كثيراً. لم يكن يرن مثل هذا الرنين المتتابع من قبل. ولم يكن يريد أن يتوقف، لولا أني أجبته أخيراً.
لستُ أدري لماذا جلست بعد المكالمة، على هذه الأريكة، ربما لأتذكر وصية والدي، لأني كنت قد نسيت الكلمة، أشعر برنة غريبة لتلك الكلمة.
للمرة الأولى، أفكر، وأمعن، فيما قاله والدي ملياً. منذ زمن بعيد، منذ كان عمري خمسة أعوام، أوصاني بأن أضع نقودي في جيبي اليمين، يقول: لتحط عليها البركة، وتخرجها لشراء شيء صالح.
استرجعت كلامه الآن، بعد المكالمة تحديداً، وقارنته بعد زيارتي الأخيرة إلى مصر، حين كان وصولي متأخراً إلى مطار القاهرة، لظروف حجز الطيران، غير أن القاهرة كانت لا تنام.
أعرف أن المصريين وجلهم من الشبان، يتحدثون ويضحكون بأريحية في الطرقات. وقائدي سيارات الأجرة، لا يتركون أيديهم عن أبواق التنبيه. ومن حين لآخر، يخرجون أيديهم من النوافذ، عند إشارات المرور، ليدخنوا السجائر، ويتناقشون في شتى أمور الحياة.
حين تتحدث مع أحدهم، ترى على ملامحهم مسحة البهجة والسرور. رغم الأوضاع، الاقتصادية، والسياسية، التي تمر بها البلاد؛ الثورة، تعديل الدستور، الانتخابات، إلا أن الابتسامة لا تفارق محياهم.
هذا يدعوك إلى أن تبتسم، دون شعور، بالأخص في أول اللقاءات، ومع أناس جدد، لا تعرفهم، ولا يعرفوك. وإن لم تفعل!، فسوف يتطير -بعضهم- منك، ومن ثم ينعتوك!، بوجه الشؤم، فتنحسهم طيلة ذلك اليوم.
لذا، منذ صعودي على متن الطائرة، وأنا أصوب الابتسامات، وحين هبطت الطائرة، ومع رجال الجوازات، والجمارك، وحاملي الحقائب، حتى التقيت مصطفى، الذي استقبلني بابتسامة، طغت على كل ابتساماتي السابقة. وأشعرني مقدمهُ بالارتياح. القاهريون لطفاء في كل الأحوال. مصطفى أسدى لي نصيحة، عدم ذرع الطوار وحيداً، خوفاً عليّ من البلطجية.
بعد ربع ساعة، أو يزيد، من السير، كرر علي أن نسلك طريق ستة أكتوبر، مكان سكنه، وعائلته الذين أعرفهم جميعاً، منذ كانوا يعيشون في السعودية. لكنني قلت:
- الدنيا ليل، والصباح رباح، خذني إلى الشقة.
- كيف ذلك!.. خالد! أنت ضيفنا.
بصعوبة شديدة، وافق، أن ينقلني إلى سكني، شريطة أن أقبل دعوته، نهار اليوم التالي.
***
لم يكن بالإمكان المكوث أكثر مما كان، المناسبة رائعة، لكن الأبوين غادرا بعد الغروب. توجهنا أنا ومصطفى إلى سيارته. أثناء السير، ببطء، كان يقترح أمكنة، لتكملة باقي السهرة. القاهرة غنية في تعدد المظاهر السياحية، وفي أي وقت.
يقترح أماكن حديثة، مثل، رمسيس، فنادق، مولات. وأنا أقترح أماكن قديمة، مثل، خان الخليلي، مصر القديمة، مقاهي شعبية. أخيراً استقر رأينا على الحسين، أحد أحياء القاهرة، في الجمالية، وأحد المعالم الأثرية القديمة. في السابق، كنت على غير دراية بسبب وجود هذا المسجد، هنا بالتحديد. قال مصطفى:
لقد بناه الوزير الصالح طلائع، في عهد الفاطميين سنة 549هـ (1154م). له ثلاثة أبواب، مبنية بواسطة الرخام الأبيض، كلها تطل على خان الخليلي، عدى باب آخر بجوار القبة، يعرف بالباب الأخضر. سمي بهذا الاسم، لاعتقاد البعض، بوجود رأس الإمام الحسين بن علي، مدفوناً فيه. بعض الروايات تقول:
مع بداية الحروب الصليبية، خاف حاكم مصر، الخليفة الفاطمي، على الرأس الشريف، من الأذى الذي قد يلحق به، في مكانه الأول في مدينة عسقلان، في فلسطين، فأرسل يطلب قدوم الرأس إلى مصر. حمل الرأس الشريف إلى مصر، ودفن في مكانه الحالي، وأقيم المسجد عليه.
***
عندما اقتربنا من مقهى الفيشاوي، استقبلتنا رائحة النرجيلة، وطالعتنا الوجوه المتعددة. اصطفت في المقهى العتيق.
فهمي الفيشاوي، هو صاحب هذا المقهى، قال مصطفى.
فهمي أحد فتوات حي الجمالية، ليس الآن، بل في القرن الثامن عشر، كان يدير، عبر هذا المقهى، شؤون المنطقة بأكملها. ويقصده، طلاب العلم للاستذكار، وملتقى للحركات الطلابية، السرية، يتم الإعداد للمظاهرات، من هنا، ضد جيش الاحتلال الإنجليزي، تحت ستار تناول الشاي.
وفي فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، كان يلجأ إليه محبو السهر، بعيداً عن الغارات، فتغلق أبواب المقهى، ويسهرون في الداخل، حتى صلاة الفجر.
بقدر ما كنتُ عديم الإحساس، إزاء إغراءات النرجيلة، بعكس التعاطف مع الماضي الجميل، لا مجال دون التمتع بارتشاف شاي الفيشاوي، الأخضر، مع النعناع، ذو التميز الفريد.
لكن، قررنا التجول في السوق، ثم العودة لتمضية باقي السهرة في المقهى.
أثناء المسير، لم تسر الأمور على ما يرام، كان ينبغي عليّ، بعد بلوغي أواخر العقد الثالث، أن أكون أكثر حرصاً على محفظتي، ففيها نقودي، ووثائق هويتي، لا أن أفقدها فجأة، وأجعل صديقي، وآخرين، يحاولون معي العثور على من انتشلها من جيب بنطالي، اليمين.
رغم تكرار زياراتي لسوق الحسين، وحرصي الدائم، إلا أني هذه المرة، وقعت في مصيدة أحد البلطجية، سرقت فعلاً. المحفظة كانت هنا، والآن، لا أجدها في جيبي اليمين.
رفع صبي المقهى حالة الطوارئ ذلك المساء، كان يصدح كل بعد قليل:
- السعودي سُرق.. الفلوس راحت.. الرجل مغترب.. لا نريد الفلوس.. ترجع الوثائق فقط.
وبما أن أحداً لم يتكهن من معرفة السارق، كذلك لم يسرق أحد في السوق منذ مدة، قرر الصبي، من تلقاء نفسه، وضع مكافأة مقدارها ألف جنيه، لمن يعثر على المحفظة، دون ما فيها من نقود.
والحقيقة، المحفظة كان فيها ألفي دولار، حصيلة فائدة وديعة بنكية، ومئة جنيه، وقرابة خمسين ريالاً. لكن المهم، البطاقات، بطاقة الصراف الإلكتروني، والفيزا، وبطاقات متعلقة بالعمل، ورخصة القيادة.
حمدت الله أن الجواز، وتذكرة السفر، لم يكونا بحوزتي تلك الليلة. لكن كما قال الصبي:
- ترجع الوثائق فقط.
آنذاك، يفترض أن بلغنا الشرطة، الغريب أنه لم يوافقني أحد. طلبوا مني وضع عنواني، أرقام اتصال لي، أرقام اتصال لمصطفى، وأكدوا، الناس يكسوهم الغلبة، لا يرغبون المضرة لأحد. طيبون.
- المحفظة ستعود.. لكن النقود يفتح الله.
لم يعد في وسع أحد تقديم ما يمكن تقديمه، رأيت الناس يخرجون من الطرق الضيقة، ويزيدون على الحد، للفرجة على هذا المسروق. نساء كبيرات، رجال متأنقون في لباسهم، بنات شابات، شبان ينظرون، ويتكلمون في شيء محزن.
في النهاية، صدقاً، شعرت أني غير مسروق. لقد أكلنا، أنا ومصطفى، مجاناً. وشربنا الشاي، ونَزَلت النرجيلة، لكلينا، مجاناً. ولولا أن مصطفى يملك سيارة، لنقلونا حيث نشاء دون مقابل. طيبون.
على ذلك، تطلب الأمر مني إلغاء برنامجي اليومي، كنت قد خططت، على أن أودع مصطفى هذه الليلة، لمقابلة أصدقاء آخرين. أما الآن سأتشبث به.
انتقلت في اليوم التالي، مرغماً، لأقضي باقي المدة في شقته، لعدة أسباب. أولها، لم يعد لدي أي نقود. وثانيها، أنني لم أسدد رسوم الشقة مقدماً، وهذا من كرم الشعب المصري، أما الأسباب الأخرى فهي ثانوية.
ظني كان محصوراً، أني أثقلت على مصطفى، أضعت وقته، ونقوده. بينما هو، أخذ يسخر بلباقة، كان سعيداً باقتناص وقت مثل هذا، لم نكن رتبنا له مسبقاً. مع ذلك، من البديهي أن أكون متحفظاً، بعض الشيء، سواء في تجوالي، أو زيارة معرض الكتاب، أو التنقلات الأخرى. أما قائمة الكتب، استبدلتها، بقراءة تفاصيل حياة مصطفى.
إلى آخر دقيقة، قبل مغادرتي مطار القاهرة، كنت متفائلاً. في النهاية، لم ينجح أحد في العثور على المحفظة. صعدت درجات الطائرة، وليس معي غير ابتسامة، ناصعة بيضاء.
***
كتبت هذه الكلمات قبل قليل، بعد أن اتصل بي مصطفى، فاجأني بعد مضي أسبوعين من آخر لقاء تم بيننا، يبشرني:
- المحفظة معي.. سليمة.. كل شيء موجود.. إلا الفلوس!.
سعد أحمد ضيف الله