مساهمة جديدة في الارتقاء بواقع الحياة تقدمها عفاف البدر في روايتها "الاستيقاظ من الموت" الصادرة عن دار الخيال، تنهج البدر نهج مستكين لحلحلة المآسي والصراعات التي تقّيد بني البشر عن التقدم ابتداءً من الدائرة الأولى وهي دائرة الذات.
الميزة في رواية "الاستيقاظ من الموت"
أنها تشكل وثيقة تاريخية لأحداث مرت بها الكويت والعالم، كالغزو العراقي على
الكويت وحركة المقاومة الوطنية آنذاك، وكشمير ومروجها الخضراء والأوضاع الأمنية
فيها، والهجمات على مبنى التجارة العالمي.. وربط ذلك بمجريات وأحداث درامية مستعارة
منسوجة من فرض الخيال.
تتلخص الحكاية حول حياة صالح "27 سنة" الذي
يصاب برصاصة طائشة في صدره بعد التحرير وينقل على اثرها إلى المستشفى ويغيب عن
الوعي، فيبدأ ذويه في دوامة البحث عن علاج في الداخل والخارج، بينما صالح – السارد
بضمير المتكلم - كان هائما في ملكوته الداخلي، فتمتد هذه الغيبوبة قرابة العشر
سنوات، إلى أن تطلّع هو ذاته لهجر السرير بالطريقة التي اختارها لنفسه وبعزيمته
وإرادته، حيث كانت زوجته لينا - هندية الجنسية - التي تسهر الليالي للإشراف على
صحته طوال الفترة الماضية تجهز طفلتهما مريم للذهاب إلى المدرسة في صفها الثالث
الابتدائي، فسمعت صوت سقوط وحركة غير معهودة صادرة من غرفته، فأسرعت باتجاه الغرفة
وتبعتها الصغيرة، في هذه اللحظة ارتدت إليه روحه بأفضل حالها، فتهيأ له أنه سقط من
السماء فأنفصل عن جسده الفيزيائي وأفيق بجسد أثيريّ ليرى لينا مقبلة عليه فزعة، فيفترش
احضانه كي يعانقها ويشبعها قبلات إلا أنها تمر من خلاله وتخترقه، فينظر إليها ويسألها
كيف فعلت ذلك، لكنها لم تسمعه، فيثني ركبتيه على الأرض ليحتضن ابنته التي لم يعهد
ولادتها فتخترقه هي الأخرى، إلا أنها تشعر ببرودة غريبة لا تعرف ما هي، وتلتفت ولم
تره، ويستدير ليرى جسده المتهالك على السرير، وينادي: لينا، أنا هنا، أنا بخير.
فيرى جسده وقد تحركت الأنابيب الموصلة عبر أنفه للطعام وعبر حلقه للتنفس، وينظر
إلى الأجهزة فإذ بإشارات مختلفة عن السابق تظهر على الشاشة، فتسارع لينا بالاتصال
بالدكتور طارق كي ينقله إلى المستشفى.
هكذا كان يسير بنا قطار السرد على سكة عصيبة،
فيما هذا الكائن النوراني كان يرى والدته تسرع لتحمل ابنته، بعدئذ راها تتصل بلينا
وهي بمعيته في عربة الإسعاف وقد أسبلت دمعاتها عليه مع أنين متحشرج، فترتفع روحه
أكثر فيرى بوسع أكبر، ويبدو أن الزمن لم يعد له قيمة لما يرى من انعتاق عن العالم
المادي وهو يسبح في عالم الوعي الكبير، لدرجة أنه كان يشاهد أسرته ماذا يصنعون وهو
مستلقي على السرير، وكان يسمع كل ما يدور بين الأطباء وبينهم لينا شبه منهارة وهم يناقشون
إزالة جميع الأجهزة عن صالح ليذهب ويلقى ربه، فتصرخ لينا وتمنعهم ثم تقترب منه ويعلو
صوتها: "إن أرادوا ابعادك عني فثق تماماً أنني لم أخنك أبداً وبقيت وفية لك"،
ثم تنهار باكية وترمي برأسها على صدره.
في هذه الأثناء العصيبة يفتح صالح عيناه شيئاً
فشيئاً ويحاول رفع يده ليحضن لينا وهو يقول بصوت غير مفهوم: "أصدقك"، فترفع
لينا رأسها وهي تحملق في وجهه فترى عيناه ترفان، ولم تصدق ما ترى، وراحت تشير
إليه: "صحا.. صالح صحا".
في رواية "أموت كي أكون أنا" لـ أتينا
مورجاني "رحلتي من السرطان إلى مكان قريب من الموت إلى الشفاء الحقيقي"،
ذكرت أنها استغرقت في غيبوبة عميقة وهي محاطة بأحبائها وفريق يراقب نفسها الأخير
في أي لحظة وهي مريضة ومنهكة لكنها كانت تشعر بكل واحد منهم، ثم استطاعت الشفاء
ذاتياً أو هكذا صار، وتقول: نستطيع عمل هذا عندما نتصل مع المكان اللامتناهي فينا،
حيث يكون كل واحد فينا وحيد، ونسمح للشفاء أن يحدث.
لا شك في أن البدر قد أفلحت في تقديم هذا السرد المتماسك
والمهيمن على الأحداث والشخصيات هيمنة رزينة، وقد استمر هذا الابداع في التماسك حتى
شفاء صالح من سباته الطويل، ويبدو بعد ذلك أنه خُط لنا خطاً آخر ورُسِم لنا شخصاً
مختلفاً، فبعد أن استيقظ صالح وأصبح إنساناً متنوراً، مرتبطاً بالوعي الأعلى، انطفئ
على أثر ذلك الإيقاع القصصي بشكل لافت، إذ احيل إلى إيقاع توعوي بعض الشيء، وأشبع
المنتصف الأخير من الرواية بالتوجيه المباشر الذي لا يسمح بالتأويل فانزلق فيه
صالح – الراوي - وبثه لمن حوله.
إذاً صلحت حياة صالح بعد الإفاقة بشكل واضح وتام –
بخلاف ما كان عليه قبل السبات الطويل - ووجهه أصبح مضاء واستطاع أن يكمل دراسته
العليا وأغدقت عليه بساتين الحياة رحيقها الفاتن، فيما ازدادت الرواية انطفاءً،
بعد اليقظة، بسرد ونقاشات متعلقة بمصطلحات تنموية، نقاشات ليس فيها مشاهد تُشاهد
ولا تعني للدراما شيئاً، يقول الأديب الروسي أنطون تشيخوف (1860-1904): "لا
تقل لي إن القمر مضيء، بل أرني بريق ضوئه على زجاج مهمش".
يمكن أن نطلق على هذه الاستعاضة الداعمة أنها
اتخذت منحى مقصود من قبل الكاتبة – وهي مدربة في التنمية الذاتية – لتقديم رسالة تنموية،
نصفها لقارئ معين مستهدف والنصف الآخر لخلجات الكاتب، لكن فعلياً ما يهم القارئ هو
التجارب الإنسانية وانعكاسها على الوجود وتفاصيل الحياة اليومية التي تسيّر العمل
القصصي بتجرد.
لم يبق إلا أن نقول، إن هذا الجهد الروائي عند
الكاتبة كان لافتاً وبارعاً خصوصاً في الحبكة وحياة الأبطال، وكانت القصة مقنعة
فنياً وتدعو للاستيقاظ.
سعد أحمد ضيف الله
كاتب سعودي