السبت، 1 نوفمبر 2014

كي تستوعب الآخر!

لا يستحق أي فكر إنساني ساعة عناء واحدة إن لم يكن هاجسه الأول الإنسان وسعادته ومصيره على هذه الأرض. جميع المفكرين الكبار كانوا مهووسين بمصلحة الإنسان، بتحسين أوضاعه، بإبعاد شبح العذاب والظلم والفقر عنه، بأي شكل كان وبقدر الإمكان. كل مفكر كبير يظهر في التاريخ يحاول أن يقدم تشخيصات وعلاجات لمشكلة الإنسان والمجتمع ككل، والإنسان السوي المرتقي بأخلاقه يرجو من كل قلبه أن تتحقق الكرامة الإنسانية لكل شخص على هذه الأرض.

اذا تلمسنا صنيع ذلك الاعرابي صافي القلب يوم نزل عنده صديق يهودي ثم مات في بيته، في تلك القصة المعروفة نجد فيها صورة ذلك الانسان المحب للإنسان، فحين قام الإعرابي يصلي عليه، كان يقول: "اللهم إنه ضيف وحق الضيف ما قد علمت، فأمهلنا إلى أن نقضي ذمامه..". فالاعرابي الذي كانت تحكمه عادات وتقاليد فكر إنساني منفتح راقي الزمه ذلك القيام بواجب الضيافة دون النظر لاختلاف الضيف في العقيدة، والمدهش أنه كان راغباً في القيام بواجب الضيافة حتى بعد وفاة الضيف، بل إنه رأى أن الصلاة على الميت اليهودي – المخالف له في المعتقد الديني – من واجبات الضيافة، أي المقصود الدعاء له وهو مقتضى أن يحسن مثوى اليهودي، فلا يدفنه من دون دعاء له بالرحمة، أما حسابه فهو شأن إلهي يترك للآخرة، المهم أن يقوم بواجبه الإنساني نحو الآخر.

لما جاء الإسلام جاء ليغير مفاهيم عميقة في الفكر الإنساني، ومن ضمن هذه المفاهيم أن يجدد، وأن يجعل الحياة متجددة، وأكبر ما واجه من إشكاليات أن بعض الناس كانت لا تقبل الانفتاح، وتتخوف من الشيء الجديد، لذا كان هناك محاربة للإسلام لأن المسألة الرئيسية أنه فكر جديد على وضع مظلم، ثم بعدئذ لم يستوعب ايضاً بأنه نظام متجدد. والناس حسب العرف القديم يحبون أن يتبعون السلف، فواجه الإسلام هذه العقبة الكبيرة، لأن الناس لم يدخل في أدمغتها أن الإسلام جاء ليجدد عليهم الحياة ويسهل لهم ما تعقّد، لذلك كان أكبر عائق للبشرية هو قبول التجديد والانفتاح، وهو عكس الانغلاق والتقوقع. وكان الرسول – عليه الصلاة والسلام – يريد من الناس أن تستمع اليه بعدئذ هم وشأنهم، يقبلون أو لا يقبلون، يقتنعون أو لا يقتنعون، وبطبيعة الإنسان الذي خلقه الله عليها، بكامل روحه وبعقله النابض عندما يرتبط عقله وروحه بطريقة صحيحة فإنه يستمع إلى الصواب. والله سبحان وتعالى يدعو للاستماع دائماً واختيار الأحسن من كل الكلم (وبشر عباد الذين يستمعون العقول فيتبعون أحسنه). والإنسان ليس ملزوم أن يتبع كل ما يسمع، لكنه مدعو لسماع كل ما يقال فيما يهمه ومن ثم يتبع أفضل ما قيل.

كان دعاة الاتباع قديماً يحاربون هذه الفكرة، لا يستمعون لشيء آخر، الحاخامات والكهنة والرهبان كانوا يحاربون ذلك، وفي الكنسية كانوا يقولون طالما أنت في الكنيسة أترك عقلك بالخارج، ابق فقط مع ما يقوله القسيس، وبعض المسلمين أيضاً حاربوا هذه الفكرة واختلقوا مبدأ سد الذرائع وتوسعوا فيه، حتى أنهم قالوا لا يجب السفر إلى بلاد الكفر من باب ألا تستمع إلى الآخر، وتحجير الفكر، ربما تكون النية طيبة عند كل هؤلاء، من مبدأ لماذا ندخل بعض الأفكار والحفاظ على الايمان والدين والأخلاق السابقة؟، لكن في الحقيقة هذا المعتقد لما توسع أفسد على الناس كثيراً. قال الله سبحانه وتعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا).

الإسلام لما قدم وانفتح على الشعوب كان مرناً وتعايش الناس معه ولم يضيق عليهم حياتهم، بل أوجد لهم الحلول، لأنه بالإساس منفتح ومتجدد، فهو في أساسه كان اسلاماً عربياً، في قريش، ثم في المدينة، والحجاز، وبدأ يتوسع مع شعوب مختلفة من قبائل الجزيرة المتعددة، والسواحل، ثم الفرس والروم وكانوا أصحاب حضارة، فاتسع صدر الإسلام لكل هؤلاء، فقبل كل هذه العادات والتقاليد واستوعبها وادخلها داخل النظام وعمل منها تطور، لدرجة أن الكتب التي تلي القرآن الكريم في التشريع هي من كتّاب ليسوا من أصول عربية، مثل صحيح البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والقزويني ..الخ، كلهم غير عرب، صاروا مصدر لصيق وقوي لتعاليم الإسلام. استوعب الإسلام كل هؤلاء الناس، واصبح لهم أحقية في مصدر التشريع، فاليوم يتلقى المسلمون أفكارهم وقناعاتهم ومفاهيمهم من غير العرب، وما يقال عن الشريعة يقال عن الأمور الدنيوية، فاستطاع الإسلام أن يقبلهم ويستقبلهم ويسمح لهم بإحداث مفهوم لهذا التغيير، أي قبول الآخر والانفتاح معه.

هذا المفهوم الذي استوعبه العالم اليوم بشكل جيد، أفضل مثال فيه، ما حصل في الولايات المتحدة الأمريكية حين نرى أن يحكمها اليوم رجل مهاجر كان أبوه تاجر بطاطا في كينيا، ثم جاء إلى أمريكا وعاش واصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، هذا الخلق والسلوك والتصرف والقناعة، مفاهيم اسلامية جاءت بها نبوة محمد عليه الصلاة والسلام. هذا الفكر لا شك أنه يؤسس لعلاقة منفتحة على الآخر، أي لا يمكن أن تفسد العلاقة بين الناس إذا اختلفت انتماءاتهم.

سعد أحمد ضيف الله 

سعد أحمد ضيف الله الوعي يعني سمع، أي وعت أذنه صوتاً، وهو الفهم، أي المحصول الفكري الذي ينضوي عليه العقل. والواعي هو حاضر البديهة، ولديه تواص...